الخميس، 17 ديسمبر 2009

مباراة مصر- الجزائر: بطاقة حمراء للإعلام!

نتائج كارثية أفرزتها أحداث مباراة مصر- الجزائر بنهاية الشهر الماضي، ومازالت تداعيات ما حدث الهدف الشاغل لوسائل الإعلام رغم مرور نحو أسبوعين على المباراة في محاولة للبحث عن الأسباب والنتائج والدوافع، ويكاد يكون التفسير الوحيد المقبول أبعد من واقعة مباراة كرة قدم بين فريقين رياضيين ستنتهي بفوز أحدهما وخسارة آخر.

الأحداث التي سبقت المباراة وما بعدها شكلت سابقة لم تشهدها الساحة العربية والرياضية حصراً بين بلدين لهما تاريخ مشترك منذ منتصف القرن الماضي تبادلا فيه المواقف التضامنية سواء في دعم مصر للثورة الجزائرية أيام الرئيس جمال عبد الناصر، ودعم الجزائر لمصر خلال حرب تشرين أيام الرئيس هواري بومدين.
لم تعد المشكلة في من فاز أو خسر في المباراة بل بالأحداث التي سبقت المباراة وتلتها، وانعكاس ذلك على الشارع الذي تم شحنه بالكراهية وتغذية حالة العداء بين أنصار الفريقين من قبل وسائل الإعلام في البلدين.
الشرارة الأولى أطلقها الإعلامي (عمرو أديب) على قناة أوروبت وعلى مدى ثلاثة أيام حيث استعمل خطاباً استفزازياً استهله بدعاء (يا رب نكد على الجزائريين)، وتسويقه لكراهية مفترضة يكنها الجزائريون للمصريين ما أدى إلى قيام ردود فعل في الشارع المصري والجزائري، والتسبب في حصول حالة من الاحتقان والكراهية عندما واصل استفزازه بالدعوة إلى قتل الجزائريين، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ولم يكتف بذلك بل نصب نفسه وصياً على الشعب المصري راسماً حدود التعامل بين مصر والدول العربية، وقام من خلال برنامجه بقمع آَراء ضيوف برنامجه الذين يختلفون معه بالرأي- بأسلوب بعيد عن اللباقة- ومنهم المخرج (خالد يوسف)، وطالبوا باللجوء إلى العقل والحكمة والدعوة إلى الهدوء ونسيان ما حصل.
مذيع آخر اسمه (طارق علام) وصف الشعب الجزائري بأنه من أحقر الشعوب، وهناك مشهد آخر بطله مذيع آخر اسمه (تامر أمين) استضاف الفنان فاروق الفيشاوي في برنامجه (البيت بيتك) على القناة المصرية حيث قام هذا المذيع بطلب فاصل على الهواء لأنه يريد الدخول إلى الحمام في سابقة لم تحدث في أي تلفزيون في العالم لأنه لم يعجب برأي الفنان الفيشاوي الذي طالب فيه بالتعقل في معالجة الأحداث عقب المباراة، وتمنى أن تتكاثف الجهود لتكوين اتحاد عربي على غرار الاتحاد الأوروبي.
أحد مذيعي قناة دريم قدم تقريراً مصوراً من الشارع عرض فيه آراء الناس الذي قام بتلقينهم الإجابات المسبقة التي تشجع على الفتنة وهي (أنهم لو شاهدوا أي جزائري في الشارع فسيقتلونه).
صحيفة (المصري اليوم) المستقلة نشرت في صفحتها الأولى العناوين التالية:
(يوم الغضب.. تظاهرات قاهرية حاشدة تطالب برد الاعتبار وطرد السفير الجزائري)
(اشتباكات مع الأمن وحرق العلم الجزائري، ومقتل 14 جزائرياً، وإصابة 400 آخرين في احتفالات دموية في الجزائر)
حملة المقاطعة لم تسلم منها الفنانة الكبيرة (وردة الجزائرية) التي فرض عليها الفنانون المصريون الحصار ودعوا إلى مقاطعتها فنياً، ونسوا أغنياتها الوطنية في حب مصر ومنها اغنيتها المشهورة (بلادي الحلوة بلادي، بلادي السمرا بلادي).
هل وصول مصر إلى نهائيات المونديال يعيد لها دورها الإقليمي الذي فقدته بعد اتفاقية كامب ديفد، واعتمادها سياسات أبعدتها عن محيطها العربي وعن قضايا المنطقة؟
لذا يبدو تفسير ما جرى من تداعيات إثر المباراة هو محاولة لاستعادة الدور المفقود حتى لو كان عن طريق كرة القدم من خلال حشد المواقف المؤيدة للنظام وإشعار الناس أن مصر مستهدفة وأنها في خطر، ما دعا الأوساط الرسمية والإعلامية إلى رفع شعار ( مصر فوق الجميع ) الذي تصدر شاشات الفضائيات رافقه اعتماد خطاب متشنج استغل تجمع الناس أمام شاشات التلفزيون لمتابعة مباراة مصر والجزائر وسط أجواء مهيأة لافتراض الفوز في المباراة.
عندما تحققت خسارة الفريق المصري بدأت الردود الغاضبة وسط أجواء مشحونة بالتعصب الأعمى ورددت الفضائيات المصرية العامة والخاصة خطاباً واحداً يستهدف غسيل ذاكرة المصريين وعقولهم ويشعل نار الفتنة، ووسط هستيريا جماعية تم استنفار كل مشاعر الكراهية من خلال تزوير مجريات الأحداث وتسويق أخبار غير دقيقة عن مجازر وقتلى وجرحى لا حصر لعددهم، وكأن الفضائيات تنقل وقائع على الجبهة مع العدو المشترك للأمة العربية وهو (إسرائيل).
عملية إلغاء العقل، وصرف الناس عن متابعة مشاكلهم اليومية في مواجهة الجوع والبطالة والفساد عن طريق خلق أعداء مفترضين، وتكبير الفجوة والشرخ العميق بين مصر والجزائر كانت من أهم نتائج الأحداث.!
هناك حقيقة غابت عن الجميع وهي قيام وسائل الإعلام بتبني سياسات الترويج لبرامجها من أجل زيادة نسب المشاهدة عن طريق إشعال الفتنة واستغلال المشاعر الوطنية للناس وتجييرها. من أجل تسويق مرشح الرئاسة المنتظر (جمال مبارك)، ومن تابع وقائع المباراة على الشاشات المصرية يلاحظ أن الكاميرات التلفزيونية كانت توجه عدساتها نحوه أكثر من توجيهها لوقائع المباراة، لذا قام بتصعيد تصريحاته النارية ضد الجزائر معتبراً أن خسارة مصر مؤامرة موجهة ضده، علماً أن ملكية معظم القنوات المصرية الخاصة تعود إلى أنصاره من أثرياء مصر الجدد!!
من هنا يبدو واضحاً دور الإعلام المحرض الأساسي للفتنة وتغذية الحقد بين الطرفين، حتى وصل الأمر إلى قيام أنصار الفريقين بحرق الأعلام وتبادل الشتائم واستعمال مفردات لا تليق بتاريخ البلدين، حتى وصل الأمر بلاعب ومعد لأشهر البرامج الرياضية مثل (أحمد شوبير) لأن يقول (إن الجزائر ليست بلد المليون شهيد بل المليون لقيط).
في مقال له بصحيفة (الشروق) نشر في 21/11 قال الدكتور معتز عبد الفتاح في وصفه لحالة الإعلام: (فقد عمدوا إلى التهييج والإثارة والتحريض، وتجاوزوا في ذلك الحدود المهنية والأخلاقية، وكانت النتيجة أن المناخ الإعلامي عبّأ الناس بمشاعر مريضة وغير صحية، استخرجت منهم أسوأ ما فيهم من مشاعر وتعبيرات ومواقف، دعت بعض حمقى المدونين إلى اعتبار إسرائيل أقرب إلى مصر من الجزائر).
إن تضخيم عبارة (كرامة مصر) في خلاف بين مشجعين لمباراة في كرة القدم فيه إساءة بالغة لمصر الكبيرة بتاريخها وشعبها العربي، فمن غير المعقول أن تختزل كرامة مصر بهذا الشكل من أجل تسويق مصالح ضيقة للبعض مقابل إشغال الشعب عن قضايا أساسية تتعلق بحياته ومستقبله.
في حديثه إلى قناة الجزيرة في 20/10 يقول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل:
(عندما جاء نتنياهو بعد انتخابه في أيار إلى مصر جلب معه بن اليعازر، وبن اليعازر محكوم عليه في محاكم كثيرة في مصر لأنه هو الذي أمر بقتل أسرى حرب مصريين طالت 65 جندياً وضابطاً مصرياً وقدمه نتنياهو بقوله: إنني قادم إليكم ومعي صديقكم بن اليعازر، ويتابع هيكل: هذا الرجل مطارد في مصر ومحكوم عليه، وكان قد امتنع ثلاث سنوات ما يقدرش يجي لكنه جاء مع نتنياهو، وفي نفس الوقت كان رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلي اشكنازي على وشك الهبوط في مطار هيثرو بلندن ثُم طلع على طول لأنه عرف أنه مطلوب بجرائم كبيرة).
ترى ألا تعتبر زيارة مجرمي الحرب الإسرائيليين لمصر إساءة لكرامة مصر، ثم ماذا عن بيع الغاز المصري بربع قيمته في السوق العالمية وبعقود تم توقيعها مؤخراً لمدة 17 عاماً، ألا يعتبر هذا تفريطاً بثروات هذا الشعب الذي تم حقنه بمشاعر العداء اليوم تجاه الجزائر، وغداً قد يكون الهدف دولة أخرى، لكنها بالتأكيد لن تكون (إسرائيل)!!
مواقع الانترنت والصحافة العالمية رصدت ما ينشره الإعلام الإسرائيلي عن مباراة مصر- الجزائر، بأسلوب ساخر حيث جاء في أحد المواقع: (مصر خسرت الحرب.. ولكن ليس بسببنا هذه المرة..!) وموقع آخر جاء فيه: (نسي ملايين المواطنين في مصر والجزائر، طوال تسعين دقيقة مشاكلهم مع الفقر والتعليم والصحة والفساد والبطالة، وانشغلوا بمعرفة الفريق الذي سيمثل العرب في بطولة كأس العالم في جنوب إفريقيا العام القادم).
بلغت السخرية أقصاها عندما أشار أحد المواقع إلى أن عميلاً للموساد الإسرائيلي هو من سجل هدف الجزائر في الخرطوم حتى تفسد العلاقات بين مصر والجزائر).
أحد المواقع قدم للحكومة الإسرائيلية النصيحة التالية: (بدلاً من استثمار الأموال الضخمة على شراء الأسلحة للجيش الإسرائيلي، ليس علينا سوى أن ننظم عدداً من مباريات كرة القدم بين الدول العربية وبعضها البعض، وبعد ذلك سيهتمون هم بالباقي وتندلع الحرب بينهم).
إن استعراض الدور الذي مارسته وسائل الإعلام في استغلال مباراة لكرة القدم بين بلدين شقيقين، والتسبب في إيقاع الفتنة وتصعيد مشاعر العداء بينهما يبعد الإعلام عن دوره الوطني في دعم الوحدة الوطنية في البلد الواحد ويغذي مشاعر العداء بين الدول العربية، لذا لابد من العمل على وضع ضوابط تمنع تكرار ما حدث، وإعادة النظر بالقوانين الناظمة للعمل الإعلامي من خلال وضع ميثاق شرف يكون ملزماً للجميع دون المساس بحرية الرأي وتداول المعلومات، وتعميق مساحة الحوار واحترام الآخر.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

جزائري أنا .. أنا جزائري © 2008 | تصميم وتطوير حسن